كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في المعهد السويدي للشؤون الدولية ريكسدا غشوست

كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في المعهد السويدي للشؤون الدولية ريكسدا غشوست

السويدستوكهولم
08 تشرين الأول/أكتوبر 2003

صاحبي الجلالة

أصحاب السعادة

حضرات السيدات والسادة

أشكركم.. إنه لمن دواعي سروري وغبطتي أن أكون معكم. وأشعر بالامتنان لأعضاء المعهد لإتاحتهم هذه الفرصة أمامي لمشاركتكم في بعض الأفكار والمساهمة فيما أعتقد أنه حوار هام جداً بين بلدينا.

إن النموذج السويدي دليل على التأثير الإيجابي القوي الذي يمكن لشعب حازم أن يحدثه على الأحداث العالمية، فبلدكم قائد عالمي في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها. لعبت السويد دوراً كبيراً في تعزيز السلام والتطور ليس فقط في أوروبا بل في كل أرجاء العالم. مثلما فازت السويد بالسمعة العالمية للجودة والإبداع، فإن قادتكم يحظون بالاحترام والتكريم في كل مكان، على شجاعتهم وأمانتهم وتضحيتهم. وقدمت السويد للعالم على مرّ العقود، الكونت فولك برنادوت، وداغ همرشولد، وأولوف بالمه، وآنا ليند، وقد شارككم الملايين أحزانكم على فراقهم.

حقق بلدكم سمعته رغم الحقيقة الماثلة في أنه ليس أكبر أو أغنى بلد أو الأكثر سكاناً. وأنا أعتقد أنه حقق مكانته بسبب طاقته الأخلاقية والتزامه للإنسانية - وهو التزام عميق بالاعتراف بالكرامة المتساوية لجميع الشعوب - سواء في الجوار أو عبر العالم.

قبل سنوات عديدة قال الاقتصادي السويدي البارز غونار ميردال شيئاً مثيراً للاهتمام حول هذا الالتزام الأخلاقي، فقد كان يتحدث عن الحاجة إلى أن تقوم الدول المتطورة بالعمل، والمساعدة على إنهاء الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة. لكن ميردال قال أن مثل هذه المساعدة لن تكون كافية إذا تم تقديمها بدواعي المصلحة القومية، فلا بد أن يكون للعمل بعد أخلاقي أيضاً. يجب على صانعي السياسات وعلى المواطنين أيضاً أن يفكروا من منطلق "التضامن والتعاطف الإنساني.

اليوم يفهم الناس أكثر من أي وقت مضى مدى ترابط عالمنا، وما زلنا نواجه فجوات عالمية عميقة بين الغنى والفقر، بين الأحرار وغير الأحرار، وبين المتقدمين تقنياً وغير المتقدمين، غير أن الأحداث أظهرت للدول المتطورة والنامية على حدّ سواء، أننا لا نعيش في عزلة، فنحن نعيش مصيراً ومستقبلاً مشتركين. ففي القرن الحادي والعشرين - بالنسبة لجميع الدول - فإن "المصلحة القومية نفسها ذات بعد أخلاقي، لأننا لا نستطيع تحقيق نجاح كامل إلا إذا تقبلنا إنسانيتنا المشتركة.

لأن السويد تدرك هذه الحقيقة فإن بلدكم قد أصبح مصدراً عالمياً للأفكار والتأثير، ونجاحكم ذو صدى خاص في الأردن.

ونحن أيضاً أبعد ما نكون عن أكبر أو أغنى بلد في منطقتنا والأكثر سكاناً، لكننا نؤمن أننا بالتصميم والطاقة نستطيع أن نحقق تأثيرنا في وقت حاسم.

يلزم الأردن اليوم نفسه بمسار التنمية والتقدم والسلام. ونحن نجاهر بجرأة برأينا باسم التسامح والعدالة. وأقدمنا على مجازفات من أجل السلام في منطقتنا وفي كل أرجاء العالم. وبدأنا برنامجاً شاملاً للإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

إن الهدف الأساسي للأردن يتمثل في إقامة مجتمع يمكّن أبناءه، ويتيح الفرصة للجميع. وذلك يعني مجتمعاً مدنياً ديمقراطياً شاملاً، يوفر الأمل الحقيقي والحلول الحقيقية - استقرار سياسي واقتصادي، نمو اقتصادي وتمكين اجتماعي حقيقي. إننا نعرف أن هذا ليس طريقاً سهلاً من خطوة واحدة، فهو يستدعي إصلاحات هيكلية في كل أنحاء المجتمع. لكن ذلك الجهد قائم ويتسارع. إنني أؤمن أننا نعمل على إيجاد عملية نموذجية يمكن أن تفيد العالم العربي ككل، نموذج يمكن أن يكون طريقاً كفؤاً نحو الديمقراطية والازدهار، لمنطقة كلت من الطرق المسدودة واليأس.

يسعى النموذج الأردني للاستفادة من الفرص العالمية والشراكات. لكن لا بد لي من القول لكم أن جذوره تكمن في مواطن قوة مجتمعنا وقيمه وتاريخه. تعتبر هوية الأردن كدولة إسلامية محور هذا التراث، وهذه الهوية توفر لنا قيماً إيجابية جوهرية - قيم مثل التسامح وتقبل الآخرين .. الاهتمام بالمضطهدين واحترام الرجال والنساء على حد سواء منذ قدم التاريخ الإسلامي. هذه هي القيم التي أثرت ثقافتنا، وألهمت التقدم البحثي والعلمي، وخلقت حضارة مزدهرة متعددة الأعراق. وفيما نسير نحو المستقبل فإن هذه هي القيم التي ستخلق مجتمعات تجديدية غنية بالمعرفة تعزز الفرص.

إنني أعرف أن هذا الوصف للإسلام ليس الذي تسمعونه من المتطرفين أو من هؤلاء الذين يكرهون الإسلام. لكنهم مخطئون بمقدار خطأ هؤلاء الذين يؤمنون أن حضارات العالم لا يمكن أن تلتقي وتعمل معاً. ففي حقيقة الأمر فإن تجربة السويد الخاصة بها تظهر أن شعباً يستطيع أن يحب تقاليده وثقافته بقوة بينما يفتح عقله وأبوابه للآخرين. فالسويد حالياً وطن لحوالي 300 ألف مسلم، وهم أناس محبون للسلام، مثل أغلبية المسلمين على الصعيد العالمي ... أناس يقومون بأدوار فاعلة في مجتمعاتهم وبلدهم وفي العالم.

أصدقائي،

لم يمرّ يوم أهم من هذا اليوم حتى يصل أبناؤنا ويتواصلوا فإذا تمكنا من صنع مستقبل زاخر بالحرية والفرص للجميع فيجب علينا أن نقوي علاقاتنا ونعمل معاً بشكل أكثر تأثيراً.

في أوروبا تمت إزالة الحواجز منذ أمد طويل أمام حرية حركة البضائع ورأس المال والناس. كما أن حقوق الإنسان، القيم الديمقراطية التعددية والرفاه الاجتماعي اهتمامات تتزايد على صعيد القارة. وهذه البنية التحتية للأفكار تربط الدول الأوروبية كما توفر إطاراً لشراكاتها مع الدول والمناطق الأخرى. مثل هذه الشراكة تكمن في الشراكة القائمة بين أوروبا ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط. وعملية برشلونه الحالية تلزم منطقتينا بالعمل معاً من أجل السلام والاستقرار، وتحسين التفاهم المتبادل والتسامح، وتخلق ازدهاراً اقتصادياً مشتركاً. إن هذه الشراكة حيوية لمستقبل منطقتينا.

إنني فخور لأن الأردن كان أول بلد مشرقي يبرم اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي. إن هذه الشراكة بين دولنا تعكس قيماً مشتركة والفوائد الإيجابية للتعاون المتزايد بين دولنا. هنالك خطوة هامة تتمثل في العملية التدريجية بإقامة منطقة تجارة حرة بين الأردن ودول الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2010. إن أوروبا الشريك التجاري الرئيسي للأردن - واسمحوا لي بالقول أن السويد تلعب دوراً هاماً مرحباً به.

إننا نعتقد أننا نستطيع زيادة حجم التبادل التجاري مع أوروبا - وهو الآن يشكل حوالي ثلث وارداتنا وأقل من 4% من صادراتنا. ونحن أيضاً نشعر بالامتنان إزاء الدعم الذي نحظى به من الاتحاد خلال هذه الفترة فيما تؤدي الإصلاحات إلى تغيير اقتصادنا في طريقه إلى منطقة التجارة الحرة.

الأردن ملتزم باقتصاد مفتوح ومزدهر وهو في طريقه إلى ذلك. لكن اسمحوا لي أن أتحدث بوضوح، فالشرق الأوسط، أيها الأصدقاء لا يستطيع القيام بالإصلاح والتنمية بشكل كامل، ولا يمكن لنظامنا العالمي أن يكون مأمونا بصورة كاملة، إلا إذا تم حل صراعين كبيرين.

في العراق تدعو الحاجة الماسة إلى أن يكسب أصدقاء الحرية السلام، وذلك يعني إعادة بناء سريعة وكفؤة وإقامة حكومة شرعية تحظى بمصداقية. يجب أن يكون الهدف النهائي عملية سياسية تؤدي إلى حكومة عراقية يختارها الشعب العراقي بحرية.

والآن وفي الشهور المقبلة فإن المساعدة الإنسانية أمر أساسي للتعافي، وأنا أعرف أن السويد تساهم بفعالية، واسمحوا لي أن أشكركم على هذا. إن قلقكم وأعمالكم تبعث رسالة هامة في كل أنحاء المنطقة، رسالة تعبر عن العدل والإنسانية.

يجب على المجتمع الدولي أيضاً أن يحلّ الآن الأزمة المركزية في منطقتنا - الصراع العربي الإسرائيلي.

إن الركود في الشرق الأوسط، التطرف في كل أنحاء العالم - نتائج لدوامة العنف المستمرة منذ زمن طويل. لا يمكن للجهود الرامية إلى تشجيع الاعتدال وتوفير أمل جديد أن تنجح بشكل كامل إذا ما استمر هذا الصراع.

الشعوب على جانبي الصراع يتلهفون للسلام والأمن، وقبل أربعة شهور، أكد الفلسطينيون والإسرائيليون في العقبة نيتهم في انتهاج الطريق إلى السلام. وقد وافق المجتمع الدولي على خارطة الطريق التي توفر للإسرائيليين ضمانات أمنية جماعية من جميع العرب، معاهدة سلام وعلاقات طبيعية مع الدول العربية ونهاية للصراع. وبالنسبة للفلسطينيين توفر نهاية للاحتلال، دولة مستقلة قابلة للحياة بحلول عام 2005، والوعد بالعيش كشعب حر ومزدهر.

لا بدّ من تطبيق خارطة الطريق الآن، وهذا سوف يتطلب التزاماً حقيقياً من المجتمع الدولي وكذلك الأطراف المعنية - التزام يختبر قيادتنا ومواردنا كما يختبر أعمق أخلاقياتنا. إننا لا نستطيع احتمال المزيد من الفرص الضائعة.

أصدقائي،

اليوم يبحث الناس في الشرق الأوسط عن أمل جديد، أمل في مستقبل حافل بالازدهار والسلام. إن أكثر من 60% من سكان العالم العربي دون سن الخامسة والعشرين. وشبابنا، مثل شبانكم يستحقون تحقيق آمالهم ولا يظلون رهينة للماضي.

لقد شهدنا الخطر ودمار العنف والكراهية والظلم، لكننا شهدنا أيضاً ما يمكن للناس أن يحققوه عندما يتم تمكينهم، عندما يتصلون ويمارسون إبداعهم ويبنون المعرفة ويتواصلون.

علينا جميعاً أن نعمل معاً لخلق وعد القرن الحادي والعشرين.. عالم ينبض بالحرية والانفتاح .. مجتمع إنساني يقوم على احترام الآخرين وعلى الفرص المتزايدة. يتطلب منا الازدهار والسلام أن ننبذ سياسات العزلة والفرقة. إن إقامة شراكة جديدة، شراكة التضامن الإنساني هي وحدها التي تستطيع أن تنجح.

أشكركم جزيل الشكر...