خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في الجلسة العامة للدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة

خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في الجلسة العامة للدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة

الولايات المتحدة الأميركيةنيويورك
28 أيلول/سبتمبر 2015
(مترجم عن الإنجليزية)

كلمة جلالة الملك خلال الدورة الـ70 للجمعية العامة للأمم المتحدة (الكلمة كاملة) | RHCJO

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد الرئيس،
السيد الأمين العام،
أصحاب الجلالة والفخامة والمعالي،

أشكركم جميعا. ويطيب لي أن أخاطبكم من على هذا المنبر الدولي ممثلا للأردن، وإنسانا يحب الله ويخشاه، ويحب البشرية جمعاء. وأنا هنا أيضا، كأب يسعى لأن يعيش أبناؤه وبناته، وأبناؤكم وبناتكم، والبشر جميعا، في عالم يسوده السلام والرحمة والمحبة.

إلا أن مستقبل هذا العالم، كما نتطلع إليه جميعا، يتعرض لتهديد خطير من الخوارج، أولئك الخارجين عن الإسلام وقيمه الإنسانية النبيلة، والذين وصل بهم الأمر اليوم إلى تهديد المجتمع العالمي بأسره. فهم يستغلون الاختلافات الدينية لتقويض أسس التعاون والتراحم بين بلايين الناس، من جميع الأديان والطوائف، ممن يعيشون متجاورين في العديد من بلداننا. كما تستغل هذه العصابات، الخارجة عن الإسلام، حالة الانغلاق والشك بين أتباع مختلف الديانات والمذاهب للتوسع وبسط نفوذها. والأسوأ من كل ذلك، أنهم يمنحون أنفسهم مطلق الحرية لتحريف تأويل كلام الله وتبرير جرائمهم البشعة.

إننا مجمعون اليوم على ضرورة هزيمة هذه العصابات. ولكن قبل أن نتساءل حول كيفية تحقيق هذا الهدف، دعونا نسأل: ماذا لو لم تتم هزيمتهم؟ وكيف سيكون عالمنا حينها؟ وهل يمكن أن نرضى بمستقبل يسوده القتل الجماعي، وقطع الرؤوس، والخطف والعبودية؟ وبمستقبل شرعه السائد اضطهاد الأقليات، وحيث الإرث الحضاري والثقافي للإنسانية جمعاء، والذي تم الحفاظ عليه لآلاف السنين، يدمر بشكل ممنهج؟

لقد وصفتُ من قبل ما يشهده عالمنا اليوم بأنه حرب عالمية ثالثة، ويجب أن تكون استجابتنا لها بحجم التحدي، الأمر الذي يتطلب عملا دوليا وجهدا جماعيا على مختلف الجبهات.

ويجب أن نكون جميعا على يقين بأن الجبهة الأكثر أهمية في هذه الحرب تدور رحاها في ميادين الفكر، ومبتغاها كسب العقول والقلوب. وعلينا جميعا أن نوحد الصفوف كمجتمع إنساني في هذه الحرب.

إننا في الأردن فخورون بالعمل معكم لإطلاق مبادرات تبرز أهمية التسامح والحوار على مستوى العالم. وتجسيدا لذلك، أطلق الأردن مبادرات "رسالة عمان"، و"كلمة سواء"، و"الأسبوع العالمي للوئام بين الأديان"، والأخيرة  اعتمدتها الأمم المتحدة، قبل أربع سنوات، كحدث سنوي يهدف إلى تشجيع الناس عموما، والشباب على وجه الخصوص، لتبني المبادئ النبيلة للتسامح والتعايش.

لا بد لهذه الجهود أن تستمر، وأن يكون للأمم المتحدة دور محوري فيها. وعلينا جميعا، شعوبا وقادة، أن نسهم في بناء هذا الطريق. واسمحوا لي أن أقترح هنا سبع خطوات أساسية لتحقيق ذلك.

أولا، دعونا نعود إلى الأصول، إلى الجوهر والروح المشتركة بين الأديان وبين معتقداتنا. لأننا، وللأسف، نفقد أحيانا الصورة الشاملة: فالجوامع بيننا أعظم بكثير من الفوارق. ويتمثل هذا الأمر في القيم المشتركة، التي نؤمن بها، من محبة وسلام وعدل وتراحم، لقوله عز وجل:
"ورحمتي وسعت كل شيء" (الأعراف 156).

ثانيا، دعونا نغير لهجة خطابنا. فخلال إحدى جولاتي مؤخرا، لاحظت لافتة على جانب الطريق تقول: "خافوا الله". وعلى بعد أميال قليلة، لافتة أخرى بنفس العبارة، ثم أخرى مماثلة، ثم ثالثة، أما الأخيرة فكانت تقول: "أو الجحيم هو المأوى". وتساءلت: متى وكيف تسلل الترهيب إلى خطابنا بدلا من محبة الله؟ قد يعتقد معظم الناس أنه لا علاقة لهم بخطاب الكراهية الذي يحمله المتطرفون، لكن عالمنا عرضة للتهديد عندما يسيطر العنف والخوف والغضب على خطابنا، سواء في المدارس أو الخطب الدينية أو حتى في علاقاتنا الدولية.

ثالثا، دعونا نترجم معتقداتنا إلى أفعال. وما أعنيه هنا ألا نقف عند أداء بعض الفرائض فقط من صلاة وصيام وزكاة، بل لنرتقي بذلك إلى تجسيد القيم والمبادئ لديننا الحنيف في حياتنا اليومية، في كل ساعة من مطلع يوم جديد، وذلك بأن نحب جارنا، ونحترم من يختلف معنا وأن نرعى أطفالنا. فكل واحد منا يمكنه القيام بشيء يعكس مبادئ إيماننا بخالقنا.

رابعا، علينا أن نُعظّم صوت الاعتدال. فمن أعظم المفارقات العجيبة في زماننا هذا أن تستغل الأصوات المتطرفة وسائل الإعلام الحديثة لنشر الجهل! علينا ألا نسمح بأن تُحتَكَر شاشاتنا وموجات الأثير وشبكات الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من قبل من يشكلون الخطر الأكبر على عالمنا. وعلينا أيضا أن نزرع في وسائل إعلامنا، والأهم من ذلك، في عقول شبابنا، الاعتدال ونقاءه.

خامسا، علينا أن نكشف الزيف والخداع على حقيقته. فعندما ننظر إلى دوافع هؤلاء الخوارج، الخارجين عن الإسلام، بل إلى دوافع المتطرفين في جميع أنحاء العالم، نجد أن شهوة السلطة والسيطرة على الناس والأموال والأرض هي محركهم. إنهم يستخدمون الدين كقناع، وهل هناك ما هو أسوأ من تحريف كلام الله لخدمة أجنداتهم؟ وهل هناك أدنى من استغلال الضعفاء والأبرياء لتجنيدهم؟

وعلينا أن نتذكر هنا أن المجتمع الإسلامي العالمي يضمّ مليارا وسبعمائة مليون من الرجال والنساء الصالحين، الذين يمثلون ربع البشرية. أما العصابات الخارجة عن الإسلام والتي نراها اليوم تعيث فسادا في الأرض، فهي لا تمثل سوى قطرة في محيط الصالحين منا. لكن قطرة من السم كهذه تسمم بئرا بأكمله. وعليه، يتوجب علينا نحن حماية ديننا وقيمه النبيلة. فهذه حربنا كمسلمين، وهذا واجبنا.

سادسا، التسامح لا يقبل التطرف الذي ينمو على حالة اللامبالاة لأصحاب الفكر المعتدل. لكن الاعتدال لا يعني قبول من يسيئون للآخرين ويرفضون كل من يختلف معهم. وحربنا العالمية اليوم ليست بين الشعوب أو المجتمعات أو الأديان، بل هي حرب تجمع كل المعتدلين، من جميع الأديان والمعتقدات، ضد كل المتطرفين من جميع الأديان والمعتقدات. وعلى قادة كل الدول والأديان والمجتمعات جميعا أن يتخذوا موقفا واضحا وعلنيا ضد التطرف مهما كان نوعه أو شكله. وهذا يشمل احترام جميع أماكن العبادة من مسجد أو كنيسة أو كنيس.

ولا مكان أهم وأكثر تأثيرا لتجسيد هذا الاحترام والتعايش من مدينة القدس، حيث الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية واجب مقدس، وهنا نضم صوتنا إلى المسلمين والمسيحيين في كل مكان رافضين التهديدات التي تتعرض لها الأماكن المقدسة والهوية العربية لهذه المدينة.

أصدقائي،

أما الخطوة السابعة فتتعلق بالتواصل. ففي عصرنا هذا، يحدد التواصل كيفية العيش والتفاعل، سواء في أعمالنا أو مجتمعاتنا أو مدارسنا وسائر جوانب حياتنا. فقبل سنوات قليلة فقط، كان مفهوم شبكة التواصل الإلكتروني أو الانترنت محصورا بالاتصال بين أجهزة الكمبيوتر، فكان يقال "انترنت الكمبيوتر"، أما الآن فإننا نتحدث عن "انترنت الأشياء"، بمعنى أن الانترنت بات يربط بين جوانب كثيرة ومتنوعة من الحياة. لكن الأهم من كل ذلك هو مفهوم "انترنت الإنسانية"، والذي يتمثل في أعلى درجات التواصل الذي يوحد ضمائرنا ويجمعنا على قضية واحدة.

سيداتي وسادتي،

إننا، ومن خلال اجتماعنا هنا اليوم، نقر بأن فاعلية العمل الجماعي تتجاوز بكثير قوة أي مجهود فردي. ويجب على الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تعالج القضايا العالمية الملحة، والمتمثلة في التنمية المستدامة الشاملة، والتي يمكن أن توفر لنا المزيد من الفرص، خاصة للشباب، وتعزز من إمكانية التوصل إلى حلول سياسية سلمية للأزمات الإقليمية.

ومن واجب العالم أيضاً إيجاد الحلول وتقديم الإغاثة للملايين من اللاجئين في الشرق الأوسط، إذ نواجه اليوم نقصا هائلا تتعرض له برامج ومنظمات الأمم المتحدة الحيوية، بما فيها الأونروا، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبرنامج الغذاء العالمي.

واليوم، تلاحقنا صور الآلاف من اللاجئين على شواطئ وحدود أوروبا، الساعين وراء الأمل بعيدا عن وطنهم. لقد واجهنا في الأردن هذا التحدي منذ بداية الأزمة السورية، حيث يشكل اللاجئون السوريون لوحدهم اليوم 20 بالمائة من سكان المملكة.

وقد أخذنا على عاتقنا منذ البداية جزءا كبيرا من عبء هذه الكارثة الإنسانية، ورفعناه عن كاهل المجتمع الدولي. إلا أن الدعم الذي تلقاه الأردن لا يشكل إلا جزءا بسيطا من الكلفة التي تحملناها. وقد آن الأوان ليتحرك المجتمع الدولي بشكل جماعي لمواجهة هذه الأزمة الإنسانية غير المسبوقة، ودعم دول مثل الأردن ولبنان، اللذين تحملا وطأة هذا العبء خلال السنوات الأربع الماضية.

أصدقائي،

يجب أن نعمل بشكل جماعي في جميع المجالات التي ذكرتها، من أجل مستقبل عالمنا. والتواصل هو مفتاح النجاح. ولا بد أن تتجسّد قيمنا المشتركة من مساواة ورحمة وأمل في كل ما نقوم به من أفعال. ويجب أن نتواصل مع بعضنا البعض لما فيه خير الجميع.

فهذه القيم والروابط المشتركة هي مصدر قوة الأمم المتحدة، والوعد الذي تجسده. هنا، ومعا يمكننا، بل من واجبنا صناعة المستقبل الذي تريده شعوبنا: عالم أكثر أمنا وقوة يسود فيه التعايش وإشراك الجميع والازدهار والسلام.

هي سبع خطوات ذكرتها يمكنها أن تقودنا إلى وجهتنا المنشودة، وبإذن الله سوف تحققها شعوبنا وبلداننا، وستحقق أكثر من ذلك.

وشكرا.