رسالة جلالة الملك عبدالله الثاني الى رئيس الوزراء عدنان بدران حول انشاء هيئة لتنفيذ استراتيجية عامة لمكافحة الفساد

From King Abdallah II of Jordan
26 حزيران/يونيو 2005

بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزنا دولة الأخ الدكتور عدنان بدران حفظه الله
رئيس الوزراء الأفخم

ابعث إليك وإلى زملائك الوزراء بأطيب التحيات وخالص التمنيات بالتوفيق وبعد.

فقد حقق الأردن الغالي على مدى تاريخه إنجازات كبيرة، برغم شح الإمكانات والظروف الإقليمية غير المستقرة من حولنا، وتمكن وطننا بفضل الله وبتصميم وإرادة من شعبنا الوفي، أن يصل إلى مستوى متقدم في مسيرة التنمية، إلا أن التحديات الماثلة أمامنا ما زالت كبيرة أيضا، وتحتاج إلى تضافر جهود الجميع، مثلما تتطلب المثابرة والعمل الجاد لتعزيز ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، وتطوير ودعم قدرة هذه المؤسسات على ضمان توفير العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص في توزيع مكتسبات التنمية.

إن آفة الفساد هي إحدى آفات العصر، وهذه الآفة لا تنحصر في ثقافة أو بلد ما، فهي ظاهرة موجودة في البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء، كما هي موجودة في القطاعين العام والخاص وفي مختلف طبقات المجتمع، لكن تأثيرها السلبي اكبر ما يكون في الدول التي تسعى جاهدة لتحسين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والانتصار على الفقر والبطالة، فالفساد يبدد الطاقات ويكرس الإحباط ويزعزع ثقة المواطنين بمؤسساتهم ويحرمهم من فرصهم المشروعة.

وكما ينبغي للمجتمعات الجادة أن تحارب الفساد، فانه لا بد لمثل هذه المجتمعات أن تحمي المؤسسات العامة ومن يعمل فيها من خطر اغتيال الشخصية والإشاعة عملا بقوله تعالى "يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" صدق الله العظيم، فالفساد واغتيال الشخصية صنوان. ومثلما نربأ على أنفسنا أن نتعامل مع الفاسدين أو نتغاضى عن فسادهم، فإننا بنفس القدر نرفض التعامل أو التواطؤ مع من يحاولون اغتيال الشخصية، وندعو إلى ملاحقة هؤلاء جميعا قانونيا.

لقد كان الأردن من الدول الرائدة في مكافحة الفساد على مستوى دول العالم، عبر الجهود الكبيرة التي قامت بها مديرية مكافحة الفساد وديوان المحاسبة، وتبوأ الأردن في مجال مكافحة هذه الظاهرة المرتبة السابعة والثلاثين من بين مائة وخمس وأربعين دولة وفقا لتقرير منظمة الشفافية العالمية، وهي مرتبة تقترب من مراتب الدول المتقدمة، لكن ونحن نرنو إلى أن يظل الأردن أولا ودائما ومستقبلا في مصاف الدول التي تسعى إلى التخلص من هذه الظاهرة، فإننا ندرك انه قد شاب جهودنا لمكافحة الفساد بعض الشوائب والخلل والقصور في مراحل عدة عبر السنوات الماضية، مما يحتم علينا وضع آلية جديدة لمحاربة الفساد تضمن المزيد من الشفافية والعدالة والنزاهة.

وانطلاقا من كل ما سبق وتعزيزا لرؤيتنا وتطلعاتنا في بناء الأردن النموذج الذي يشارك جميع أبنائه وبناته في صياغة مستقبله، وانسجاما مع طموحاتنا في تعزيز ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة، لترقى إلى ثقة شعوب العالم المتقدمة بمؤسساتهم، فإننا نعهد إليكم بإنشاء هيئة مستقلة تضطلع بالتنسيق مع الجهات المعنية بوضع وتنفيذ إستراتيجية عامة لمكافحة الفساد والوقاية منه بشكل مؤسسي، وبما يكفل الكشف عن مواطن الفساد والتحري عن جميع القضايا المرتبطة به، بما فيها الفساد المالي والإداري والعمل على مباشرة التحقيقات اللازمة بخصوصه، وجمع الأدلة والمعلومات المرتبطة به.

إننا نرنو إلى هيئة مسؤولة عن ملاحقة كل من يسعى إلى الفساد والإفساد أو ينخرط في منزلقا ته. مثلما نرنو أيضا إلى القيام بجهود تضمن تجفيف مواطن الفساد وإغلاق نوافذه، وتوعية المواطنين بآثاره السلبية الخطيرة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعلى مصداقية الأردن لدى المستثمرين والمؤسسات الدولية.

وإذ نطمح إلى إنشاء هذه الهيئة التي ستعزز جهودنا في مجال الإصلاح والتحديث وتطوير مؤسسات الدولة لا سيما في الإدارة والقضاء، فإننا نرى أن ظاهرة الواسطة والمحسوبية التي يشكو منها المواطنون، هي أيضا إحدى أشكال الفساد، ففي الوقت الذي نعتز فيه بقيم التماسك والتراحم والتكافل الاجتماعي النابعة من تراثنا العربي والإسلامي، فإننا نرى أن الواسطة والمحسوبية التي تعتدي على حقوق الآخرين قد أضرت بالمال العام وحرمت بعض المواطنين من الفرص التي يستحقونها، ولهذا فإننا ندعو إلى اعتبار مبدأ تجريم الواسطة التي تهضم حقوق الغير قيمة من قيم مجتمعنا الأردني ومن المخالفات الصريحة لأسس العدالة والمساواة التي يعاقب عليها القانون.

وإذ نؤكد على استقلالية هذه الهيئة وضمان عملها بعيدا عن أي تأثير أو تدخلات من أي جهة كانت وإلى خضوعها لمعايير المساءلة والمحاسبة، فإننا نود أن نؤكد على أن تشمل رقابة وعمل هذه الهيئة جميع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والشركات المساهمة العامة والمؤسسات التي تتعامل مع القطاع العام، وأن يتم اختيار الأشخاص المنضويين في عمل هذه الهيئة عبر آلية تسمح بمشاركة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في عملية تزكيتهم والتوصية بهم، وفق أسس ومعايير واضحة ومنضبطة، وان يتم رفد هذا الجهاز بما يتطلبه من إمكانيات ومتطلبات، بما في ذلك ما يحتاجه من كوادر الادعاء العام والتحقيق وضمان سهولة الوصول للمعلومات.

آملا في اتخاذ الإجراءات اللازمة بالسرعة الممكنة لإعداد قانون هيئة مكافحة الفساد وإحالته إلى مجلس الأمة وإعطائه صفة الاستعجال لإقراره في اقرب فرصة، وأن نخرج بإستراتيجية واضحة لمكافحة الفساد والمفسدين والبدء بتنفيذها حتى يظل الأردن كما أردناه حاضرا ومستقبلا ودائما موئلا للعدالة والنزاهة.

وفقنا الله العلي القدير جميعا في أن نحقق آمال شعبنا وطموحاته في بناء الاردن النموذج.

والله ولي التوفيق

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبدالله الثاني ابن الحسين