خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني بمعهد بيكر، جامعة رايس

خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني بمعهد بيكر، جامعة رايس

الولايات المتحدة الأميركيةهيوستن، تكساس
09 أيار/مايو 2002

الوزير بيكر،

سعادة السفير دجيرجيان،

أصدقائي،

أشكركم على ترحيبكم الحار، ويسعدني الانضمام إليكم اليوم في مؤسسة بيكر. مثلها مثل من تحمل إسمه، حظيت هذه المؤسسة بسمعة عالمية لأفكارها العظيمة وخدماتها العامة ويسعدني أن أدعى للمشاركة في عملكم وبصورة خاصة يشرفني اليوم أن يكون بيننا قادة من أعظم أصدقاء الشرق الأوسط، الوزير بيكر والسفير دجيرجيان استوعبا منذ أمد بعيد دور منطقتنا الحيوي والخطير في العالم وعملا عن قرب مع المغفور له والدي في دفع السلام والتنمية قدما.

أتطلع للمزيد من حكمتهم ودعمهم... في الحادي عشر من أيلول الماضي كنت أستقل طائرة للقدوم والتحدث إليكم عندما تناهت إلى مسامعي أخبار الهجمات على مركز التجارة العالمي وتأجل اجتماعنا مثل غيره من الاجتماعات. أعتقد أن اجتماعنا هنا اليوم للاستمرار في حوارنا، يروي قصة ما حققته أمتنا في الستة أشهر الماضية فكما لاحظ كثيرون فتحت أحداث 11 أيلول فصلا جديدا في التاريخ ولكن... وبذات الوضوح ليس الفصل الذي خطط الإرهابيون لكتابته، فبدل السقوط في الفوضى واليأس تعاضد المجتمع الدولي والتحم معا وكانت النتيجة تحالفا دوليا جديدا ضد الإرهاب وكل ما يمثله. أنه من دواعي فخري أن أقول أن الأردنيين وقفوا إلى جانب العدالة والسلام وهو الدور الذي ينبثق عن عقيدتنا الإسلامية وتوقنا كعرب للحرية وعن تاريخنا الوطني؟ على مدى عقود واجه الأردن ذاته تهديدات إرهابية حقيقية وتحدثت وأردنيون آخرون علنا ومرارا ضد التطرف في صراع عالمي ضد الإرهاب، كان بلدنا سباقا ولا نزال نقف إلى جانبكم، علينا أن نقف الآن معا لإيجاد حلول لتهديد آخر، إنه خطر موجه للسلام العالمي وهو تهديد أزمة تعيد تعيد الشرق الأوسط برمته إلى بدايات هذا الصراع ويتطلب الأمر منا جميعا الاستجابة بسرعة. ففي أيلول الماضي وعندما كان مقررا لي القدوم هنا كانت إسرائيل وفلسطين غارقتين في العنف وكلا الجانبين.. ثقل حمله من اليأس والاستخفاف وسلسلة من الأفعال وردودها التي تهدد المستقبل ليس مستقبل الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل مستقبل المنطقة برمتها، منطقة هي جزء من الحياة الاقتصادية والسياسية وبالتأكيد الحياة الروحية لشعوب العالم كله.

ومنذ ذلك الحين بات الوضع في الشرق الأوسط شديد الخطورة نحن اليوم نقف على حافة الهاوية، والخطر لا يلف المنطقة وحدها بل يتجاوزها ليطال العالم كله. رسالة العنف والمواجهة والاحتلال الذي شهدناه مؤخرا ببساطة يشير إلى أن الشرق الأوسط بحاجة لأسلوب جديد لتحقيق السلام، أسلوب التدرج المرحلي النموذج الذي تبني الأطراف خلاله الثقة وتتحرك ببطء نحو مخارج غير محددة (مسبقا) هو النموذج الذي تم استنفاذه. وبقولنا هذا لا نقلل من أهمية التقدم الذي أحرزناه في العقود الماضية فقد حقق مؤتمر مدريد المنبثق عن القيادة المباشرة والشخصية للرئيس بوش والوزير بيكر وضع المعايير للنتائج المتوخاة حضره الفلسطينيون بوفد أردني مشترك وبدأت المناقشات حول قضايا حيوية وعملية وجسرت عملية أوسلو التي تبعت المؤتمر الفجوات؟ وحطمت المحظورات.. وحققت المكاسب حتى وقت قريب من العام الماضي، حيث صدر تقرير لجنة ميتشل واتفاق تينيت لوقف إطلاق النار، حيث عبر القادة في المنطقة عن رغبة أكيدة ومشتركة للخروج من المأزق والتقدم للأمام.

لكن دون شك وإذا ما كان لعملية السلام في الشرق الأوسط أن تحقق سلاما دائما وأن يتمكن الفلسطينيون والإسرائيليون من الاستثمار في حياتهم وطاقاتهم وثقتهم يجب أن يلمس الناس النتائج.. أمن حقيقي، استقلال حيوي مستقبل يحمل الأمل؟ واليوم لا يمكن لأي كان أن يدحض أن ذاك الأمل قد تآكل. ونمت مكانه قناعات في الجانبين بأن التفجيرات الانتحارية طريق مثمر لتحقيق الحرية- على سبيل المثال أو الفكرة المعادلة لها في الخطأ بأن الدبابات يمكنها قمع صرخة شعب شرعية للاستقلال. كيف نعود للطريق؟ اليوم اعتقد أننا بحاجة للتقليل من الضلوع "بعملية" السلام والسعي للسلام ذاته. سلام يجد صدى بين الإسرائيليين والفلسطينيين ويعالج بمصداقية مخاوفهم وهمومهم وآمالهم، سلام بمعزل عن ارادات ورغبات القيادات سلام يركز ثانية على نتائج عملية مناسبة، وقد يجادل المتشككون بأن هذا غير ممكن نظرا للقسوة التي برزت في الفكر العام لكلا الطرفين، ولهم أقول أنه إذا تمكنت الأزمة الراهنة من تعميق الانقسامات فإنها دون شك حددت معالم لقضايا أكثر من أي وقت مضى، وفي الحقيقة وبينما يستعر الصراع تدور في أذهان الطرفين عمليات طرح ذاتيه للحلول المقترحة لتلك القضايا الشائكة فالشعبان منهكان ومستعدان للسلام، سلام يتيح للأم الإسرائيلية أن ترسل طفلها لحاجة في السوق دون خوف، سلام يتيح للأم الفلسطينية أن تضع وليدها ويبقى حيا.. في المستشفى وليس على نقطة تفتيش واحتجاز إسرائيلية. في سبيل إنهاء حالة العنف الراهنة يجب أن يأخذ أسلوب حل النزاع مكان إدارة النزاع.. ويتطلب هذا أسلوبا يركز بدقة على الأهداف النهائية ومبادئ السلام، وفي الآن ذاته قيادة دولية قوية ومناسبة وفاعلة لجلب ذلك الحل. والحقيقة هي.. أنه في ضوء الأوضاع الراهنة لم يعد الإسرائيليون أو الفلسطينيون قادرين على اتخاذ الخطوات المطلوبة للتوصل إلى تسوية معقولة ونهائية بمقدور المجتمع الدولي وحده -تحت قيادة أمريكية قوية- قيادة الأطراف كي تتجاوز هذا الانقسام.

ومن جانبه، يواصل الأردن ومنذ سنوات عديدة في تحمل المجازفات لصنع السلام والمحاولة للإبقاء عليه. إن لبلدي مصلحة كبيرة في السلام. ولدينا تقليد في قيادتنا بأن نكون القوة الثابتة والمعتدلة في منطقتنا. ولدينا أيضا اهتمامات في النواحي الرئيسة للمفاوضات مثل الدفاع عن حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين في الأردن. ولدينا أيضا مخاوف أخرى فعلى الرغم من نجاح الأردن في تحقيق نمو بلغ 4.2% في إجمال الناتج المحلي في العام الماضي مقارنة مع 2.1% للدول المجاورة أخبرنا الخبراء أن الوضع الإقليمي يكلفنا ما لا يقل عن 1% سنويا من مجمل النمو الحقيقي. ويتسبب هذا في استنزاف تأثير مجالات أولويات وطنية كاملة تتراوح بين تأمين احتياجات الأسر من الغذاء، وبناء بنيتنا التقنية التحتية وتوفير التعليم لأطفالنا الذي يحقق لهم النجاح.

دعوني أكون واضحا لن نشهد قط شرق أوسط يتم وضع حل للصراع العربي الإسرائيلي وبالأخص؟ للوضع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن أجل تحقيق هذا الهدف؟ قمنا بالمجازفة من أجل السلام ولكن ليس بمقدورنا الوقوف بمفردنا أنها مسؤوليتنا المشتركة في الاتحاد ضد أولئك الذين لا يرغبون بإحلال السلام.

واليوم.. أهيب بالولايات المتحدة أن تنتهز هذه اللحظة التاريخية لإيجاد اتحاد جديد للسلام في الشرق الأوسط وتحت مظلته يقام تحالف بقيادة الولايات المتحدة للدول الأوروبية والعربية ودول أخرى تقدم الدعم اللازم -أمني واقتصادي وسياسي- للإسرائيليين والفلسطينيين، يجب أن تبلغ الأطراف بما لا يدع مجالا للشك أنه في الوقت الذي لا تكافئ فيه التفجيرات الانتحارية كذلك سيكون حال الاحتلال. والأهم، يجب أن يحمل الاتحاد من أجل السلام نفوذه إلى مائدة المفاوضات ويكون وسيطا لعقد اتفاق شامل وعادل ودائم. كما ويجب أن يشمل ذلك الحل أهدافا نهائية لا أن يحقق أهدافا وسطية ولا أن يتضمن قواعد مرحلية سلام يحمي لب مصالح الجانبين دون التخلي عن تلك غير الخاضعة للتفاوض؟ سلام مبني على مبادئ عدل واضحة ونزيهة علينا التأكد من أن الآلية التي سيتم تبنيها ستعيد طرح المفاوضات لقضايا المرحلة النهائية بل الأهم، تنهي مهامها في إطار زمني معقول يجب أن تترجم تلك الآلية الرؤيا التي طرحت في مدريد، وكنتاكي وبيروت وفي الأمم المتحدة والبيت الأبيض، وتصبح حدا زمنيا مفصلا، خطة عمل تعيد إحياء الأمل وتجعله واقعا اعتقد أن أساسا قويا لطرح كهذا قد تم تبنيه فعلا في اجتماع القمة الأخير في بيروت والذي كانت له الأسبقية في هذا المضمار، هناك طرحت الدول العربية رؤيا للسلام تعترف بوضوح مصالح إسرائيل وفي الآن ذاته تلبي آمال الفلسطينيين من خلال معاهدة سلام جماعية مع كافة الدول العربية ستتمكن اسرائيل من الحصول على الضمانات التي تسعى إليها. الشخصية اليهودية والأمن والشرعية والاعتراف الدولي والقبول العربي والمستقبل الآمن لإسرائيل، ستحظى كلها باهتمام ومعالجة إيجابية.

وفي الآن ذاته سيحقق العرب أهم مطالبهم وضع حد للإحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية كلها، ضمان الاستقلال والحرية والكرامة والمساواة والأمن الفلسطيني وحل متفق عليه لقضية اللاجئين. أعتقد أن اتفاقا عادلا من هذا النوع هو وحده القابل للبقاء وسيحقق لإسرائيل وفلسطين الديمومة والأمن والسيادة كل على أراضيها، أما مسألة القدس فسيكون الحل الأمثل لها جعلها مشتركة ومفتوحة لجميع الديانات سيكون هناك حلا متفقا عليه لقضية اللاجئين يحقق العدل للفلسطينيين ولا يهدد سيادة الدولة الإسرائيلية وسيوفر الدعم الدولي، تحت قيادة أمريكية، مستوى من الثقة ضروري لتثبيت دعائم سلام جديد.

أصدقائي،

قبل سبعة أعوام قام والدي المغفور له جلالة الملك الحسين بإتمام معاهدة سلام مع إسرائيل ووضع أسس علاقات طبيعية بين بلدينا والآن، وللمرة الأولى، خاطب العرب المواطنون الإسرائيليون كجيران يستحقون العيش بكرامة وأمن وسلام، قلنا للإسرائيليين في القمة العربية بلغة واضحة "نحن نرحب بكم في جوارنا انظروا لعرض العرب للسلام بجدية من أجل الحاضر والمستقبل لشعوبنا" أعتقد أن كثيرين في إسرائيل يصغون على الرغم من الوضع الصعب فقد أيد الشعب الإسرائيلي هذه المبادرة بأكثر من 55% كما وحظيت بدعم عالمي واسع، لكن النجاح يتطلب المزيد أنه يتطلب قيادة أمريكية، الولايات المتحدة فقط تمتلك السلطة السياسية والأخلاقية للتقريب ما بين الشعوب وتحمل المجازفة التي يتطلبها إحلال السلام. في الشرق الأوسط لا يمكن الاستغناء عن دور أمريكي نشط ليس لإرشاد الفلسطينيين والإسرائيليين لكيفية الخروج من الصراع فحسب ولكن لحماية مصالحكم الوطنية الحيوية ومصالح حلفائكم من المعتدلين حلفاء كالمتراس في وجه الإرهاب في منطقتنا وحول العالم. وهنا أتوجه للشعب الأمريكي بجميع أفراده كي يمنحوا هذا الطرح فرصة للنجاح، المجازفة هائلة إذا بقينا على حالنا لقد قرع جرس المنبه علينا أن لا نعيد الساعة للخلف بل عوضا عن ذلك علينا النهوض واغتنام الفرصة.

السيد الوزير.. قبل حوالي عشرة أعوام وفي مدريد ذكرتم آنئذ بأن؟ المفاوضات لا تضمن السلام لكن بدونها لا توجد طريقة لإحراز سلام حقيقي ولن تكون هنالك آلية لتطوير المفاهيم القابلة للبقاء، السلام اليوم يتطلب أساليب جديدة وآليات لكن أهدافنا البعيدة تبقى كما هي السلام والحرية وإتاحة الفرص لشعوب الأرض كلها أنها رسالة تكمن في قلب المشروع الأمريكي واليوم؟ أكثر من أي وقت مضى يتطلع العالم للدور القيادي للولايات المتحدة الأمريكية.

أشكركم.. جزيل الشكر.