الطريق من هنا

مقالة بقلم جلالة الملك عبدالله الثاني
صحيفة النيويورك تايمز
12 تشرين الثاني/نوفمبر 2004
(مترجم عن الإنجليزية)

من وقت لآخر، يحمل لنا التاريخ في طياته لحظات مشحونة بالإمكانات، عندما نستطيع أن نتطلع قدما بنفوس مشبعة بالأمل، حتى ونحن نمر بأزمة وبحالة من عدم اليقين. وفيما يتصل بالنزاع العربي الإسرائيلي، فإن مثل هذه اللحظة قد تكون هنا نعيشها الآن. فمع انتقال المغفور له بإذن الله الرئيس ياسر عرفات إلى الرفيق الأعلى فقد الفلسطينيون قائدا حافظ على أملهم بالاستقلال حيا، على مدى ما يزيد على نصف قرن. والآن تلوح فرصة لتكريم أفضل ما في هذا الموروث في اندفاعة جديدة من أجل التقدم والسلام في هذا الجزء من العالم الذي شهد الكثير من سفك الدماء.

يظل النزاع العربي الإسرائيلي اليوم التحدي الرئيسي المركزي في العالم. ويحتاج الإسرائيليون والفلسطينيون كلاهما إلى إنهاء ما يشتمل عليه هذا النزاع من عنف لا يجلب إلا المرارة والأسى. وكذلك هو حال الملايين في أرجاء العالم الذين يعانون من الدمار والأذى اللذين يسببهما النزاع: العنف المتطرف المستمر والسخرية العميقة حيال غياب العدالة الدولية.

لقد اتخذت الدول العربية في عام 2002، خطوة جريئة إلى الأمام عندما التزمت بحل يقوم على دولتين يشمل ضمانات أمنية لإسرائيل لتعيش بسلام مع جيرانها، ودولة فلسطينية ديمقراطية ذات سيادة، وعملية تؤدي إلى تسوية شاملة وتعالج المسارين السوري واللبناني.

والحل القائم على وجود دولتين يعترف بما ذهبنا إليه على الدوام أنا ووالدي المغفور له بإذن الله الملك الحسين على مدى طويل. فكي يتحقق السلام الدائم لا بد من إدماج إسرائيل بصورة كاملة في المنطقة بمجملها من المغرب إلى اليمن. ولكن هذا يعتمد على إيجاد دولة فلسطينية مستقلة، يكون أهلها، في نهاية المطاف، قادرين على العيش بكرامة ونفوسهم تمتلىء بالأمل. وإذا لم يتحقق هذا، فلن يكون هناك قبول لإسرائيل على مستوى المنطقة، ولا سلام حقيقي.

وفي عام 2003 اتفق الفرقاء على خريطة الطريق إلى السلام وكانت الولايات المتحدة الأميركية والدول الثماني الصناعية الرائدة من المؤيدين لهذه الخريطة. ولكن العملية تعثرت في دائرة متواصلة من العنف. والآن، توفر الأحداث فرصا جديدة. إذ يمكن للقيادة الفلسطينية الجديدة أن تسير قدما ضمن رؤية تتمثل في دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستقلة، بأن تنهض إلى إحداث الإصلاحات التي يتطلبها قيام الدولة: الحكم الذي يتسم بالكفاءة، والاستثمارات في الرفاه العام، ومحاربة الفساد، وتطبيق إجراءات أمنية أشد ضد الإرهاب، وأن تكون شراكتها على طاولة السلام حقيقية.

وفي إسرائيل يمكن للحكومة أن تعيد تأكيد التزامها بخريطة الطريق وأن تتحرك بسرعة ويسر للانسحاب من غزة، وأن تتخذ إجراءات أخرى لبناء الثقة تنفي عنها التهمة القائلة بأن سياساتها في الفترة الأخيرة قصد بها تهميش عملية السلام والعمل على إحداث المزيد من الفرقة بين الناس. ويمكن للطرفين الآن أن يقدما التسويات التي يتطلبها إحلال السلام الشامل والعادل والدائم. وبذات الدرجة من الأهمية يمكن للولايات المتحدة الأميركية، بعد أن فرغت من الانتخابات، أن تعيد التركيز على هذه القضية الأساسية. فأمام هذه الدولة الديمقراطية الأقوى والأكثر بروزا في العالم فرصة لإرسال رسالة قوية لشعوب المنطقة، وبخاصة جيل الشباب منهم، رسالة قوامها الأفعال لا الكلمات. وهذا يعني الوفاء بالوعد الذي قطع بحيث نشهد العراق وقد خلا من العنف وتمتع بالديمقراطية والسيادة وأعيد بناؤه. ويعني في القلب الروحي للمنطقة، قيادة عملية السلام والإصرار على أن ينخرط الجانبان في حوار أصيل حقيقي وأن يرقيا إلى مستوى التزاماتهما المتمثلة في خريطة الطريق ويحترما هذه الالتزامات، وهي الخريطة التي قال عنها الرئيس بوش أنها يمكن أن تؤدي إلى إيجاد دولة فلسطينية مستقلة في العام المقبل.

إن الأميركيين يدركون مدى أهمية الوصول إلى مسلمي العالم. فبعد الذي جرى في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، تعهد القادة بأن الحرب على الإرهاب لم تكن حربا على الإسلام. وأقروا بالتزام الإسلام بالسلام، وتبينوا الإسهامات العظيمة التي يقدمها مسلمو العالم البالغ عددهم 1.2 مليارنسمة. ودعوا جميع المؤمنين بمختلف الأديان أن يقفوا معا، ودعوا جميع الدول إلى الانضمام إلى الولايات المتحدة الأميركية في حربها ضد الإرهاب.

ونحن لدينا أسبابنا القوية في هذا المجال. ولن نستطيع أن نكسب الحرب ضد الإرهاب إذا لم نعمل معا. فقد كنا، نحن المسلمين، الهدف الأول للمتطرفين، الذين يتمثل هدفهم المعلن في إسقاط الحكومات المعتدلة وإيقاف نمو المجتمع الديمقراطي المدني. وقد قامت بلدي بدور مهم ذي شأن في التحالف العالمي ضد الإرهاب، وأكثر من ذلك: قمنا بقيادة جهد إقليمي للإصلاح والتنمية للرد على أصوات الكراهية والسخرية. وصنفت التقارير العالمية بلدنا في المقام الأول في المنطقة في مجال الإصلاح التربوي. وفي مجال الاقتصاد، شجعنا النمو وتوفير الفرص، وأكدنا في الحياة العامة حقوق الإنسان والحكم الصالح.

إن رؤية بلدي تتجسد في مجتمع مدني حديث متجذر في القيم العربية الإسلامية. إذ يعلمنا القرآن أن نتوخى العدل فذلك أقرب للتقوى. وأنا ملتزم، بحكم كوني من أحفاد النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أن أناضل من أجل التسامح والتقدم. واعتقد أن مسيرة الأردن تبين أن النموذج الذي يصمم من داخل الوطن برؤية عربية إسلامية يمكن أن يحقق الكثير في مجال دفع التنمية إلى أمام، ومكافحة الإرهاب، وبعث الأمل المتجدد.

وفي نهاية المطاف، فإن نجاح الإصلاح الإقليمي يعتمد على تجدد الالتزام بالسلام والتقدم، بدعم من أميركا وهي تتحلى بالشجاعة. وسيجلب هذا الإنجاز معه التعافي على النطاق العالمي. وربما يكون الوقت قد حان لهذا، في هذه اللحظة التي تتشكل من لوعة الفقدان وجذوة الأمل.